حديث الجمعة/ عز الدين بن كراي ابن احمديورَ

*#حديث_الجمعة*
أسرارُ البُحُور …
أحِسُّ أنَّ لكلٍّ من البُحور الخَليلية أسراراً يختص بها من يشاء من الشعراء، بحيث إذا أودع بحر خليلي ما سره في شاعر جاء شعره فيه متميزا عن شعره في غيره من البحور، ومتميزا عن شعر غيره من الشعراء فيه.
و كنت قبل أكثرَ مِن عقد مِن الزمن دونتُ أسطُرا في هذا الموضوع، وبالتحديد عن تميز شعراء منطقة إيڭِيدي في قرض الشعر في البحر السريع ضمنتُه أمثلةً مِن سريعِ القاضي محمذن بن محمد فال، وقد شفع الأستاذ سيد أحمد بن الأمير تلك الأسطر بمقال شيق وجميل ضمنه دُررا من مقطعات العلامة المؤرخ المختار بن حامدن فيه …
من البحور الخليلية الجميلة بحر الوافر الذي لقوة موسيقاه قلَّ أن يكون بارداً إلا اذا اشتدت برودة شعر صاحبه بحيث تغلب على حرارته المتوقدة، وقد تقرر عندنا أن لِبرودة الشعر فوائدَ في مَقال جميل للأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف لا يسع المهتم بالأدب إلا أن يطلع عليه, وفي نظري أن من أكثر الشعراء الذين خصهم البحر الوافر بأسراره هو الشاعر المجيد : المختار بن محمدا، وها أنا آتيك بشواهد على ذلك تتحدث عن نفسها. يقول بمناسبة أول انتخابات رئاسية متعددة في البلاد :
تُسائلني أأنتَ مع الحكومَهْ
أم أنت مع الحكومة في خصومهْ
فقلت لها الخصومة ضد طبعي
وضد الطبعِ يصعُب أن أرومهْ
ولم تفرض حكومتُنا علينا
جزاها الله تأييد الحكومهْ
ويقول محتفيا بالرئيس المختار بمناسبة زيارة قام بها لمدينة المذرذرة ستينات القرن الماضي :
حفاوتنا بذا الوفد الرئاسي
إذا قِيست تحيدُ عنِ القياسِ
ولسنا ما بلغنا مِن حماسٍ
نُعبر عن مَداها بالحماسِ
بناها خير عاصمة كسَتْها
حداثةُ سنِّها أبهى لباسِ
بوادٍ غيرِ ذِي زرعٍ ولكنْ
غنِيٌّ بالحديدِ وبالنُّحاسِ
وكلُّ عواصمِ الدنيا تعالَي
بها علمٌ لنا مرفوعُ راسِ
وما التمثيلُ شرطٌ في التآخي
لدينا في المجالِ الدبلماسي
فعارفُ يعرفُ المُختار حقاً
ونورُ الدين يعرفهُ الأتاسِي
ويجمعهم تراثٌ ما نسوهُ
ولستُ أرى الرئيس لهُ بناسِ
ويقول مُمازحا الأديب الكبير : شغالي بن أحمد محمود الغلاوي من مساجلة إخوانية لها مكانها الرفيع في الأدب الموريتاني. وقد كان ”شغالِ” رحمه الله تيجانيَ الطريقة، مُحبا للزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر :
تؤرقني صلاتُك يا ”شِغالِ”
على المختارِ جوهرة الكمالِ
وصمتُــكَ في الجماعة في خشوعٍ
وذكرُكَ للمُهيمنِ ذي الجلالِ
فتجعلنِي أتوبُ لعل ربي
يتوبُ عليَّ ليسَ من المُحالِ
فأنهجَ مثلَ نهجكَ بالتحلِّي
بحليةِ الاجتنابِ والامتثالِ
فليسَ جمالٌ التقوى حُلاهُ
يُقاسُ بما سواهُ منَ الجمالِ
وفي الرؤساء ليسَ ”جمالُ” ممن
يُقاسُ بمن سواهُ من الرجالِ
وليسَ ابنُ اللبونِ يُقاسُ جريًا
بِجريِ المُقـسَـئِـنِّ منَ الجِمالِ
وفي نفس المساجلة يقول :
أزحتَ بحكمةِ السحرِ الحَلالِ
كَلالَ قريحتِي بعدَ الكلالِ
فنالت في قريحتكم صفاءً
فأُخصِبَ مِن خيالِكُمُ خيالِ
وحالِي شاهدٌ والحالُ يُغنِي
-لدى غيرِ النُّحاةِ- عنِ السؤالِ
ويقول في أبيات جميلة اشترك فيها مع الشيخ حمدن، تروي لنا جانبا من حياة مدينة نواكشوط في السبعينيات :
شربنا عندَ آلِ أبي المعالِي
كؤوسًا كالجواهِرِ واللآلِي
جماعتُنا : ” مِـنَـةُ ” و ”بنتُ وهبٍ”
وأختُهُما فتاةُ بنِي هلالِ
وفي المذياعِ كانَ لِ”عَـيـشَ” شدوٌ
تُـقطِّعُهُ نصائِحُ مِن ”بِـلالِ”
ويقول مخاطبا الوزير الأول سيد أحمد بن ابنيجارَ سنة 1980 في عهد اللجنة الوطنية للإنقاذ الوطني:
سِدَحْمدْ إن طيف الحكم زارا
فأكرِمْ منهُ بالعدلِ المزارا
وكُنْ للهِ جل تنلْ قبولاً
وتوقيرًا و عزًا و انتصارا
وشاوِرْ فالمشورةُ ذاتُ جدوى
تقاسُ بمنْ سترضى مستشارَا
و عاقبْ دونَ إفراطٍ وكافئْ
وَدارِ فأنتَ أدرى من يُدارى
وليسَ يثيرُ كالإيثارِ شعبًا
فكمْ شعبٍ على الإيثار ثارا
وللوطن المفدَّى مشكلاتٌ
غدائرها تضل بها المدارى
و ما عدل ابنُ ابنيجارَ كـلا
لعمري كابن ابنيجارَ جارَا
ويرتبط عندي بحر الخفيف أكثر بالشعر المعاصر ذي المسحة النهضوية الثورية، ذلك الشعر الذي يعالج قضايا الأمة والوطن وينتصر للمظلومين والمسحقوين، ويُحيل عندي بالتحديد إلى عميد الأدب الفصيح في هذه الربوع وابنِ عُمدائه : الشاعر أحمدو بن عبد القادر في نصوصه السائرة مسير الشمس، أليس هو القائل :
في الجماهير تكمن المعجزاتُ
ومن الظلمِ تولد الحرياتُ
ومنَ الظُلمِ في فلسطين قامتْ
ثورةُ الفتح يفتديها الأباةُ
مَكَثَتْ في النُّفوسِ عشرين عاماً
تتعاطى لهيبَها الكلماتُ
ثمَ صارت على صعيد الليالي
ضرباتٍِ تشدها ضرباتُ
أليس هو صاحب الترنيمة الخالدة “فرحة العيد” السائرة بحنجرة صاحبة الصوت الجميل الفنانة الراحلة المرحومة : ديمي بنت آبَّ :
استقلت بلادنا وانتصرنا
باتحاد الصفـوف والجبهـات
واعتمدنا علـى الشبـاب فأحيـا
دورنـا فـي تجـاوز العقبـات
وفهمنـا أن النضـال ســواه
كطعـان بالرمـح دون شـبـاة
أيهـا العيـد إن ذكـراك رمـزٌ
لنهوض الشعوب بعد السُّبـات
قد ملأت الصدور أمنـا وبشـرا
وأنـرْت الوجـود بالبسـمـات
سوف نعطيك لا محالـة معنـى
جئت من أجلـه ربـوع البـداة
سوف ندني إليك كـل المعانـي
ونوازي موصوفهـا بالصفـات
سوف نعطي الجُهَّال علما ودينـا
ورثـوه عـن الجـدود الهـداة
سوف نعطي الجياع خبزا ونسقي
ظمأ الأرض بالمعيـن الفـرات
أنت عيدي إن كانَ هـذا وإلا
لست عيدي ولست عيـد لداتـي
وقوله :
ريـشـة الـفـن بلـسـم وســـلاحٌ
ودليـلٌ يضـيـئ وعــي الـرجـال
نـهـض الـنـاي والـيـراع وقــالا
كلمـات بيـض الحـروف الصقـال :
هل لهذا الوجود معنى إذا لم
يتـفـهـم هـويـتـي ومـجـالـي ؟
وأنـاشـيـد مـزمــري تـتـغـذى
مـن صـدى أنتـي وفرحـة بالـي ؟
كـنـت حلـمـا معـلـلا بالأمـانـي
همـسـات تـجـوب درب الـكـلال
هَلِّلي مورتـان مـاذاك إلا ومضة
من سـراجِك المتلالـي
هلـِّلـي يــا بــلاد مـانـحـن إلا
قـطـرة مــن معيـنـك السلـسـال
وابْـشـري صفـقـي لوثـبـة نـبـع
ظـل يسـقـي مـواكـب الأجـيـال
حـاول الغـرب حبـسـه ذات يــوم
عـن مجاريـه عبـر هـذي الـرمـال
وانبـرى يمضـغ السـدود ويـجـري
لايـبـالـي بشـأنـهـا لا يـبـالـي
وفي بحر الطويل يتميز شعر الأهل في ”انيفرار” بحيث يأتي زاخرا برصانة وجزالة الشعر العربي القديم ولو تناول موضوعا حاضرا محليا. يقول الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف :
مُـنعَّـمةٌ لم تركبِ الباصَ مرةً
ولا عرفت معني اللجاجِ المُـحرِّجِ
ولا وقفت في شاطئِ البحرِ ساعةً
منَ الدهرِ إلا وقفة المُتفـرِّجِ
ويقول من مرثيةٍ :
مضى حاملُ الأيتامِ في كل أزمةٍ
ومُعطي ذوي الحَوجا فُرادى وتوأما
بصيرٌ متى ما ينقضِ الحُكمَ يَنْتَقِضْ
جهارًا ومهما سلمَ الحكمَ سُلِّمَا
على خُلقٍ مثلِ العبيرِ وشيمةٍ
تناويرها تحكي الربيع المُنمنمَا
فلا زال نُور السرِّ فيهم، ونورهُ
بهيجًا يسرُّ الناظرَ المُتوسِّمَا
ويقول في أخرى :
مآثرُ تُروى عن أبيهِ وجدِّهِ
وتُؤثَرُ عن بونَ بنِ سيدِ بن سَكَمِ
فمن لثغور كان يحمي ذ مارها
ويدفع عنها صولة المتهجمِ
وأي رهان لم ينل قصب سبقه
وأي مجال فيه لم يتقدم
وقد كان هجيراه نصرة خائف
وإيواء مسكين وإكساب معدِم
وقد عفَّ عن مالِ الكريمِ وغيرهِ
عفافًا فلم يرزأهُ حبةَ سِمسِمِ
ويقول الشاعر المرحوم : بل بن احمد سالم بن ديدي :
إذا ما أبانَ الرَّأيَ في فهمِ مُشكِلٍ
ترى العُلما حَسرَى يُفدُّونهُ قسرَا
فأيَّامهُ في الفقهِ غَــــرَّا مُنيرةٌ
وللسِّيرةِ الغرَّا ءِ أيَّامُها الغــــــرَّا
وللمسجدِ المعمورِ أيةُ حصةٍ
بها آثر الأورادَ والشفعَ والوترَا
وأيامَ يُملِي سِيرة العُربِ طِرفةً
نعيشُ بها أيامَ داحسَ والغبرَا
لقد اُتحِفَ الميمونُ أنورَ روضةٍ
كأنّي بهِ قد هزَّ أعطافهُ فخرَا
وصبرًا بنِي بيرِ السبيلِ فإنَّنا
نُشاطِرُكم حُزنًا فنحنُ بهِ أحرَى
ويقول الشاعر المُجيد المرحوم الأخ سيدي محمد ”إيدَ” بن بدَّ بن ححَّام من مرثية بديعة للعلامة فخر البلاد المرحوم : محمد سالم بن عدود :
زمانُ رحيلِ الشيخِ حظكَ عاثــرُ
وربعُكَ مهجورٌ ورسْمُكَ داثرُ
لقد كانَ ما كنا نخافُ ونختشِي
فهذا ابنُ عدُّودٍ حوتهُ المقابرُ
كأنِي بشهرِ الصومِ بعدكَ ما بهِ
أنيسٌ ولم يسمر بمكةَ سامرُ
فلا يستطيع الشعرَ مثلكَ شاعرٌ
ولا يستطيعُ النثرَ مثلكَ ناثرُ
أيا روضةً للعلمِ والحلمِ والتقى
سقتكِ منَ الرُّحمَى الغيوثُ البواكرُ
وفي كامليات الشيخ حمدن رحمة الله عليه أحس زائد رقة ورهافة حس وشيئا آخر أقرب ما وجدت للتعبير عنه هو ”مُوسيقى الزمن”. يقول :
خذْني المُراسلَ ليلةَ الإسراءِ
كيْما أحدثَ ساكني البطحاء
هذا البُراقُ مقدَّمٌ لمُحمَّدٍ
صلَّى عليهِ مُكوِّنُ الأشياءِ
يأتي به الروحُ الأمينُ محمَّدًا
تبدو عليه علامةُ استحياءِ
ما ذا أقولُ السِرّ أصبح غامضًا
والذاتُ بين تخوفٍ و رجاءِ
يدعوك عنهُ نحوهُ في ليلةٍ
أكرمْ بتلكَ الليلةِ الغرَّاءِ
ويقول متأملا من قطعة مشهورة :
انظر إلى هذا الوجودِ فإنهُ
لغزٌ يحارُ العقلُ فِي تحليلِهِ
نظرَ المُفكرُ نحوهُ فتتابعتْ
نقَطُ السؤالِ وحار في تعليلهِ
سرُّ الحقيقةِ في الحقيقةِ كامنٌ
لا نستطيعُ البتَّ في تفصيلهِ
فكَّكتَ منهُ ذرة عن شكلها
هلا تركتَ الذرَّ في تشكيلهِ
وذهبت في الصاروخِ تكتشف الفضا
ماذا عرفتَ منَ الفضا وجميلهِ
لو أعطيَ الانسانُ سادسَ حسهِ
لَبَدا خفيٌّ كانَ فِي منديلهِ
لو يحرمُ الإنسانُ نورَ عيونهِ
ما أدركَ الألوانَ في تمثيلهِ
لا تسمعِ التصفيقَ فَهوَ مضلةٌ
تُنسِي الحكيمَ وُصولهُ لِسبيلهِ
واعرف لربكَ حقهُ حقًّا ولا
تفصِل عُرَى القرآنِ عن إنجيلهِ
ويقول في الشوق والغناء :
قسمًا بعُودِكِ لا أريد سِواكِ
فتَرَفَّـقِـي بفتًى مُناهُ لِـقـاكِ
لا تقتُلِي هذا البريءَ تدلـلاً
ما ذنبُ هذا المُستهامِ الباكِي
لا تقـتــُليهِ بنغمةٍ عُلويةٍ
أوْدَعْتِ في طيَّاتِها معناكِ
وأعتذر –عزيزي – عن عدم استيعاب أبيات النصوص وعدم ترتيبها في بعض الأحيان، فلأبي تمام والزوزني –في حماستيهما – مسلك في ذلك غير مهجور …
عز الدين بن ڭرَّاي بن أحمد يورَ